### **حرائق كندا: جحيم يتجدد ونداء استغاثة من كوكب محترق**
لم تعد كندا، تلك الأرض الشاسعة التي طالما
ارتبط اسمها بالمناظر الطبيعية الخلابة والغابات الصنوبرية الممتدة والبحيرات
النقية، مجرد وجهة سياحية حالمة. ففي السنوات الأخيرة، تحولت أجزاء واسعة منها إلى
مسرح مفتوح لواحدة من أقسى تجليات التغير المناخي: حرائق الغابات المدمرة. ما
يشهده العالم اليوم ليس مجرد موسم حرائق عادي، بل هو واقع جديد ومؤلم، حيث أصبحت
السنة القياسية في الدمار هي المعيار الذي تُقاس عليه الكوارث اللاحقة.
![]() |
### **حرائق كندا: جحيم يتجدد ونداء استغاثة من كوكب محترق** |
- ومع استمرار ألسنة اللهب في التهام ملايين الهكتارات هذا العام
- يتأكد أن ما يحدث في الغابات الكندية هو جرس إنذار يصم الآذان
- ليس لكندا وحدها، بل للعالم أجمع.
#### **حجم الكارثة بالأرقام مساحات تفوق الخيال**
تكشف الأرقام الرسمية عن حجم الصدمة. حتى الآن هذا العام، أتت الحرائق على ما يزيد عن 5.5 مليون هكتار (13.6 مليون فدان) من الأراضي الكندية. لوضع هذا الرقم في سياقه، فإن هذه المساحة تعادل مساحة دولة كرواتيا بأكملها، وهي شهادة حية على ضراوة النيران التي تجتاح البلاد من شرقها إلى غربها.
- وعلى الرغم من أن هذا الرقم يبدو كارثياً، إلا أنه يأتي في أعقاب عام 2023، الذي حطم كل الأرقام
- القياسية السابقة ووُصف بأنه "أسوأ موسم حرائق في تاريخ كندا"، حيث التهمت النيران أكثر من
- 17.3 مليون هكتار (42.9 مليون فدان).
يصف المسؤولون، مثل مايكل نورتون من وزارة الموارد الطبيعية، نمط الحرائق هذا العام بأنه "أكثر طبيعية" مقارنة بعام 2023 الذي لم تهدأ فيه النيران مطلقاً. لكن هذا الوصف لا ينبغي أن يبعث على الارتياح، بل على القلق العميق؛ فالوضع "الطبيعي الجديد" هو في حد ذاته كارثة بيئية وإنسانية هائلة.
فمع تسجيل ما يقرب من ثلاثة آلاف حريق منذ بداية العام، وبقاء المئات منها خارجة عن السيطرة، فإن كندا تسير على طريق قد يتجاوز فيه حجم الدمار هذا العام الرقم القياسي المسجل سابقاً في عام 1995، والذي بلغ 7.1 مليون هكتار.
#### **التكلفة البشرية السكان الأصليون في قلب العاصفة**
خلف هذه الأرقام والإحصائيات الصادمة، تقف قصص
إنسانية مؤلمة، وتتجسد أعمق فصول المأساة في مجتمعات السكان الأصليين. لقد نزح ما
يقارب 39 ألف شخص من أبناء هذه المجتمعات من ديارهم هذا العام وحده، ليجدوا أنفسهم
لاجئين في وطنهم. إن تأثير الحرائق على هذه المجتمعات يتجاوز بكثير مجرد الخسائر
المادية وفقدان المأوى.
بالنسبة للسكان الأصليين، الأرض ليست مجرد مكان للعيش، بل هي جزء لا يتجزأ من هويتهم الثقافية والروحية. الغابات التي تحترق هي أراضٍ توارثوها عن أجدادهم، وهي مصدر طعامهم ودوائهم، ومسرح لطقوسهم وتقاليدهم. عندما تلتهم النيران هذه الغابات، فإنها تمحو معها تاريخاً حياً وذاكرة جماعية، وتدمر مصادر الرزق التقليدية كالصيد وجمع النباتات، مما يهدد استمرارية أسلوب حياتهم المتجذر في الطبيعة.
- إن هذه الخسارة الثقافية لا يمكن تعويضها، وهي تمثل جرحاً عميقاً في نسيج هذه المجتمعات التي
- تواجه أصلاً تحديات تاريخية واجتماعية كبيرة. هذه المأساة تسلط الضوء على قضية "العدالة
- المناخية"، حيث إن الفئات الأكثر
ضعفاً والأقل مساهمة في أزمة المناخ هي التي تدفع الثمن الأكبر.
#### **محرك الجحيم كيف أشعل تغير المناخ فتيل الأزمة؟**
لا يمكن فهم حجم الحرائق الكندية بمعزل عن
المحرك الرئيسي الذي يغذيها: تغير المناخ. لقد أثبتت الدراسات العلمية أن كندا
تشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة بمعدل أسرع بمرتين على الأقل من المتوسط العالمي،
وتصل هذه النسبة إلى ثلاثة أضعاف في مناطق الشمال. هذه الظاهرة، المعروفة بـ "التضخيم
القطبي"
(Arctic Amplification)، تخلق الظروف المثالية لاندلاع حرائق كارثية.
- فصول الشتاء الأقصر والأكثر اعتدالاً تعني تراكم كميات أقل من الثلوج، مما يؤدي إلى جفاف التربة
- والنباتات في وقت مبكر من الربيع. ومع حلول الصيف مبكراً وارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات
- قياسية، تتحول الغابات الشاسعة إلى وقود جاف ينتظر شرارة واحدة لينفجر.
يضاف إلى ذلك، تزايد ظاهرة "البرق
الجاف" – وهي عواصف رعدية لا يصاحبها هطول أمطار كافية – والتي أصبحت سبباً
رئيسياً في إشعال الحرائق في المناطق النائية. إن الجفاف المطول، وموجات الحر
الشديدة، والرياح القوية، كلها عوامل تتضافر لتخلق "عاصفة نارية" مثالية،
مما يجعل السيطرة على الحرائق مهمة شبه مستحيلة، حتى مع استنفار كافة الموارد
الوطنية والدولية.
#### **تداعيات عالمية دخان يعبر القارات وكربون يهدد المناخ**
لم تعد حرائق كندا شأناً داخلياً. ففي عام 2023، شاهد سكان نيويورك ومدن أمريكية أخرى سماء برتقالية مخيفة، وعانوا من تدهور غير مسبوق في جودة الهواء، والسبب كان الدخان الكثيف الذي قطع آلاف الكيلومترات من الغابات الكندية المشتعلة.
- ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل عبرت سحب الدخان المحيط الأطلسي لتصل إلى أوروبا
- في دليل واضح على أن كوكبنا نظام بيئي مترابط
- وأن كارثة في جزء منه ستؤثر حتماً على الأجزاء الأخرى.
الأخطر من ذلك هو الأثر طويل الأمد على المناخ العالمي. تُعتبر الغابات الشمالية في كندا بمثابة "رئة للعالم" ومخزناً هائلاً للكربون، حيث تحتجز في أشجارها وتربتها كميات تفوق تلك الموجودة في الغلاف الجوي. وعندما تحترق هذه الغابات، فإنها تطلق هذا الكربون المخزون دفعة واحدة، مما يؤدي إلى زيادة تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي.
- وهذا بدوره يساهم في رفع درجة حرارة الكوكب أكثر، مما يخلق "حلقة مفرغة" (feedback
- loop) تزيد من احتمالية اندلاع المزيد من الحرائق في المستقبل. لقد تحولت هذه الغابات من حليف
- في مكافحة تغير المناخ إلى مصدر إضافي لتفاقم الأزمة.
#### **نظرة إلى المستقبل بين المكافحة والتكيف**
تواجه كندا تحدياً وجودياً. فبينما يتم حشد آلاف
رجال الإطفاء من جميع أنحاء العالم، واستخدام أحدث التقنيات لمكافحة ألسنة اللهب،
يدرك الخبراء أن الحل لا يكمن في إطفاء الحرائق فحسب، بل في معالجة الأسباب
الجذرية التي تجعلها بهذه الضراوة. يتوقع المسؤولون أن يظل نشاط الحرائق مرتفعاً
خلال الشهرين المقبلين، خاصة في مقاطعة بريتيش كولومبيا التي عانت بشدة في السنوات
الماضية.
فى الختام
إن حرائق كندا هي رسالة واضحة بأن التكيف مع الواقع المناخي الجديد لم يعد خياراً، بل ضرورة حتمية. يتطلب ذلك إعادة التفكير في إدارة الغابات، وتعزيز البنية التحتية للمجتمعات المعرضة للخطر، والأهم من ذلك كله، الانخراط بجدية أكبر في الجهود العالمية لخفض الانبعاثات الكربونية.
ما يحترق
اليوم في كندا ليس مجرد أشجار، بل هو جزء من مستقبلنا المشترك. وإذا لم يتحرك
العالم بشكل حاسم وجماعي، فإن هذا الجحيم الذي يتجدد كل صيف لن يكون سوى مقدمة لما
هو أسوأ قادم.